top of page
Leaves Shadows

من سيرةِ مراهقٍ قلِق

  • Writer: مريم الصّفدي
    مريم الصّفدي
  • Jan 23, 2024
  • 9 min read

Updated: Feb 6, 2024

(1)

لم أكن أشعر بشيءٍ حينَ أقرأ الرواياتِ الأجنبيةَ أو الأفلامَ التي تعالج موضوع التنمّر في المدارس والأسرِ والحاراتِ الضيّقة هناك، رغمَ أنّي كنتُ أحبّ ذلك.بكلّ بساطة، لم يكن ما حدثَ معي مشابهًا أو مطابقًا تمامًا للبشاعةِ التي تعرِض لأولئك الأشخاص؛ إذ كانوا في تلك القصص يُضربون ويُهانون ويُظلمون ويُشتمون ويُقسى عليهم بمعاملةٍ لا يستحقّونها لأسبابٍ تافهة، وأنا لم يحصل معي مثلُ هذا، لا أريدُ أن أبالغ.على عكسه، كانَ الجميع في أسرتي ومدرستي يدّعون محبّتي والاهتمام بي بقدرٍ مساوٍ للجميع. لكنّهم في حقيقةِ الأمرِ لم يأبهوا بي أبدًا. لا تقولوا: "إنهم يأبهون بكَ لكنّك لا تشعر، أو لا تلاحظ." لقد كنتُ ألاحظ أصغر الأمورِ وأبسطَها. فالإنسانُ في مراحله المبكّرة، حينَ يبدأ بالنضج، وتتشكّل ملامح وجهِه وصوتِه وجسدِه وشخصيّته، يستطيعُ أن يلتقط الإشاراتِ الموجّهةَ نحوه بحساسيةٍ بالغة. أن يفهمَ آراء الناس حولَه، ويترجمَها. أن يستشفّها من نظراتِهم وتعليقاتهم، من نبراتِ أصواتهم عند الحديث إليهِ إن كانت مدعّمةً بالاحتفاءِ والإعجاب، أم بالمجاملة والشّفقة، أو حتّى بعدمِ الاكتراث. من احترامهم لأخيه الأكبر، ومحاباتهم لأخته الصغرى، مقارنةً بمعاملتهم "العاديّة" له.وأنا، بكلّ طفولتي، كنتُ أجمع كل تلك التفاصيل الصغيرةَ لتثبتَ لي شيئًا واحدًا: إنهم لا يكرهونني، لكنّني ببساطةٍ "لا أعجبهم" بما يكفي.كنتُ أقلَّ حظًا في الجمال من بقيّة إخوتي، أو إنّ هذا على الأقل ما كانَ يظهر في عيون النسوة اللاتي كنَّ يزرن أمي، فيحتفين احتفاءً بالغًا بأختيَ الصّغرى وعينيها الملوّنَتين، ويُطرون بشكلٍ مبالغٍ به على وسامةِ أخي الأكبرِ وشعره الناعم، وطولِه الذي يزدادُ يومًا بعد يوم، ثمّ يصلونَ إليّ فتنتهي فقرةُ المديح، وتأمرنا أمّي بالعودةِ إلى غرفِنا.كنت كذلكَ الأقلَّ نصيبًا من كلّ المواهب التي يمكنُ أن تتخيّلوها. كان جميعُ أولادِ صفّي موهوبين في شيءٍ ما، فهذا يعلّقُ له الأستاذُ لوحاتِه الملوّنةَ على حائطِ الصّف، وذاك يجعله أستاذٌ آخرُ يغنّي لنا بدايةَ كلّ حصةٍ فيصفّقُ الجميع، وآخرُ يحصلُ على علاماتٍ تامّةٍ في كل ورقةِ عملٍ أو امتحانٍ فيكرّمه المدير بدايةَ كل أسبوع في الإذاعة. حتّى أولئك الأولاد الذين كانوا يملؤون الدنيا ضجيجًا وصراخًا، ويثيرون المشاكلَ في كل دقيقة، - حتّى أولئك كانَ يُحتفى بهم، ويلقَون قدرًا من الاهتمامِ غريبًا؛ بحجةِ "احتوائهم"، وتعديل سلوكهم.كنت أضيقُ بكل ذاك التشجيع والحماسة لما يفعل الجميع، إذ لم يكن ينالني منهما حظٌّ وإن نزرًا يسيرًا.وحينَ كنت أحاول -خجِلًا- أن أقتحم صفوف الاستعراضِ فأقرأَ على أمّي أو أستاذي الذي أحبّه شيئًا بسيطًا كتبتُه، كانت تعاندني الظروفُ السخيفة، فتنتهي الحصّة، أو يرنّ جرس الهاتف، أو يشغلهما آخرون بالحديث أو الشجار، فلا ألقى إلا مجاملاتٍ جافة، أو تظاهرًا بالإعجابِ مصطنعًا سريعًا "ليجبروا خاطري".هكذا كانت الأمور دومًا، حتّى مللت المحاولة، واستسلمتُ لمكوثي في الظلّ، وبقيت أوراقي الصغيرةُ دائمًا في زاويةٍ من درج مكتبي.


(2)

حينَ كنتُ في العاشرة، كان جميع أفرادِ أسرتي من كبيرهم إلى صغيرهم يسخرون من مِشيتي. في كل مناسبةٍ عائليّةٍ كنت ألقي السلامَ على واحدٍ من أقاربي، وتكون تحيّة الإسلام عنده: "ليش هيك بتمشي مثل البطريق؟"، فينطلق الجميع في ضحكٍ وقهقهةٍ تُفسد مزاجي حتى نهاية اليوم، وترتفعُ بخجلي إلى ذروته.حينَ كبرتُ أكثرَ قليلًا سخروا من أسناني اللبنيةِ التي كانت قد تساقطت، وبرزت بدلًا منها أسنانٌ معوجّةٌ متراكبة فوق بعضها. كان يؤذيني أنّها أصبحت دائمة. أسأل أمي بقلق: "ألن تسقط من جديد؟"، فتظنّ أنها تطمئنني حين تقول لي إنّها لن تسقطَ مرةً أخرى، وأصابُ أنا بالهلع من فكرةِ أنّ تحديق الآخرين في شكلِ أسناني كلما تحدثتُ سيبقى يلاحقني كلعنةٍ طوال حياتي.كنت أخشى بطبيعةِ الحال أن أتحدّث، أو أبتسم، أو أضحكَ ملءَ فمي، وإن حدثَ ذاكَ سارعتُ إلى وضعِ يدي فوقَه لأخفيَ أسناني القبيحة.ربَما كان الأمر عاديًا في حينها. كان لعبي مع الأولادِ وأحداثُ يوميَ الصغيرةُ تنسيني تلك التعليقاتِ الساخرة، وتركيزي كانَ أقصرَ مدىً من أن أركّز في كل مزحةٍ وكلّ جملة، إلا أنّي قضيت وقتًا طويلًا -حتى يومي هذا- أحاول أن أتخلص من صورة البطريق التي سيطرت على ذهني كلما انتبهت إلى نفسي أمشي -حتى إن كانت مِشيةً طبيعيّة-. وبعد سنوات، بعدَ أن بكيت كثيرًا ليوافق والدي على أن أركّبَ تقويمًا لأسناني، استطعت أن أتخلّص من عقدةِ الضّحك، لكنّني أصبحتُ -حتى وصلتُ تلك المرحلة- غيرَ معتادٍ على التبسّم.أتمنى، لو توقّفت التعليقاتُ المؤذية عن النخر في روحي عند حدٍّ ما، لقد كانت تذهبُ بي بعيدًا وتُسقطني من علٍ. وليتها توقّفت عند مشيتي وأسناني، بل إنّ صمتي أمامها، وضحكي الخجِل مع مطلقيها كان يشجّعهم كل مرةٍ على إيجاد عيبٍ ما في جسدي أو وجهي، أو طريقةِ حديثي أو صوتي، ليتفكّهوا بالضحك عليه، كأنهم اتفقوا على نذالةٍ مستمرّةٍ لا تتوقف تجاهي، حتى إن كان ما يضحكونَ منه طبيعيًا جدًا وعاديًا، وغير مغرٍ حتى بالابتسام. طبعًا، صار أمرُ هذه النكاتِ مقرفًا ومبالغًا به، وصرتُ الشخص غير المرغوب به بين أقرانه، ذاك الذي يتجاهله الجميع ولا يكترثون بقدومه. وتحوّلت من إنسانٍ وديعٍ هادئٍ إلى إنسانٍ غاضب في داخلي، وقلِق، قلقٍ من كلّ شيء.


(3)

شجارٌ طويلٌ يجري بيني وبين والدي كل أسبوعٍ مرتين أو أكثر."لا أريد أن أذهب. دعوني في البيت وحدي واذهبوا وحدَكم، ما الضروريّ في وجودي؟"لم يفهم والداي أبدًا ما الذي جعلني أكره مرافقتهم كلّ مرة، ولن يفهموا. كنت أسمع والدي يقول لأمّي: "خلص اتركيه، عم يراهق".بالضبط، أنا "مراهق". كنت أتمنى لو أتدخّل وأخبرهما أنّ الطفلَ، و"المراهِق"، يشعران بكلّ شيء. وربما هذا هو السّبب الذي يجعل المراهقين -ويجعلني- أعتزل التجمعات الأسرية، والمناسباتِ الاجتماعية، والحفلاتِ المختلفة، وأبتعد عنها.إنّنا لا نريد أن نكون معرّضين باستمرار "للتقييم". للمقارنة. للملاحظة الدقيقة. للازدراء. أو غيرِ ذلك. أو أكثرَ منه. أو أقلّ. هذا كلُّ ما في الأمر.لا أريد أن أخسرَ جزءًا أكبرَ من نفسي وأنا أستمع إلى مقارناتكم بين درجاتي ودرجاتِ أخي، أو تهليلكم لأختي لأنها ارتدت حذاءً يلمع ويضيء حين تدوس عليه، ثمّ تحديقكم بالبثور التي بدأت تظهر في كل مكانٍ من وجهي. وأفضّل، بدلًا من هذا التقريع المستمرِّ والتعليقات الفارغة، أن أبقى في البيت وأقرأ قصّةً بوليسية، أو أحدّث فتاةً على الإنترنت تثني على كتاباتي القصيرة وتعلّق لي: "روعة"، أو ألعبَ لعبةً إلكترونيةً تشجعّني حين أفوز، ولا تحترف السخرية مني.يومًا من الأيامِ أخطأتُ ورافقت والديّ إلى عشاءٍ عائلي.لاحظت أمّي شرودي وصمتي وتجاهلَ الجميع لوجودي، فأعلنت بصوتٍ مرتفع: "بتعرفوا يا جماعة إنه عنّا أديب بالعائلة؟" اتجهت كل النظرات نحو أخي كعادتها، بينما شعرت بقلبي ونبضاته تتسارع، ونظرت إليها بعينين متوسّلتين، لكنها أردفت: "اقرألهم النص اللي قرأتلي إياه مبارح".ذبت في مكاني على الكرسيّ ونظرات الجميع تتّجه نحوي بصمت. أشارت لي أمي بعينيها وهزّت رأسها بشكلٍ متتابع مصرّةً على أن أقرأ. أخرجت هاتفي ببطءٍ من جيبي وأنا أراقب نظراتهم، أخذت أبحث عن نصٍ أقلّ إحراجًا من نصّ البارحة؛ إذ كنت متأكدًا من أنه سيحوّلني إلى مادةٍ للضحك حتى آخر حياتي. ارتبكت، وقال عمي بضجر: "خلّصنا مش مبارح كاتبه؟ هههه"قرّرتُ تحت وطأة النظرات أن أقرأ النص وليكن ما يكون. وليت الذي كان لم يكن. قرأت بصوتٍ متقطّع: "فكّرتُ فيكِ اليوم، ما الذي كان سيخسره العالم لو نظرَ إليّ كما تنظرين لي؟...." وما إن انتهت الجملة حتى انطلق أخي وأبناء عمي بالضحك: "يا ويل قلبي"، "ايش يا دنجوان"، "خلوه يكمّل يزم خلوه"، وتوقّفت أنا عن القراءة وضحكت بقلقٍ وأعدت هاتفي إلى جيبي.وحدثَ المتوقعُ فصرتُ أنا، وبثورُ وجهي، والفتاةُ المعجبة بقِصر طولي وصوتيَ الطفوليّ، حديثَ الجلسةِ إلى نهايتِها.ما كان أغناني عن مثل هذا السّخف. وكنت قد أخبرت أمي حين قرأت لها أن هذا النص يعني لي الكثير، وها هو الآن عرضةٌ لتعليقات التفهة الذين لا يدركون ماذا تعني لي الكتابة، وماذا تعني المقصودةُ بالنّص لي، ومنتهى علمهم هو ما يرون، وليس ما لا يرون. كدتُ أبكي، لكنّني تجلّدت بابتسامةٍ بائسة، وقال أبي في محاولةٍ فاشلةٍ لإنقاذي: "لا ما شاء الله عليه كتاباته حلوة، بس لو يركّز بدراسته ويسيبه من أجواء نزار قباني والهبل..."قبل أن نعود إلى البيت كان الشباب واقفين يتضاحكون، وحين انتبه واحدٌ منهم إلى وجودي بجانبه قال بصوتٍ عالٍ مقلدًا صوتي وطريقةَ قراءتي: "اسمع بدي أسألك سؤال مهم، ما الذي كان سيخسره العالم لو تروح تطُخ حالك؟"ضحك الجميع، وكرّرت على نفسي السؤالَ نفسَه بجديةٍ تامّة.


(4)

ربّما لم أعد مراهقًا تمامًا، لكنّني أكتب هذا الكلام بنفسيّة المراهق القديمِ نفسِها، وأفكاره عن ذاته نفسِها، وثقته المهزوزةِ بنفسِه ذاتِها. عمري الآنَ خمسةٌ وعشرون عامًا، لكنّني أنظر إلى نفسي في المرآة فأرى تحت عينيّ روحَ رجلٍ في السبعين، مالٍّ من الحياة والناس، ومن نفسه. أعترف، بيني وبين نفسي، أنّ الاحداث والمواقف التي مررت بها، ووحدتي الدائمة، وخلوّ حياتي من الأصدقاء، وثقتي المحطّمة، جعلتني أحمّل الأمور أكثرَ مما تحتمل. جعلتني حسّاسًا تجاه الآخرين، قلقًا من مصاحبتهم، منطويًا على ذاتي، ومنكفئًا على أوراقي، غيرَ آسفٍ على فشليَ الاجتماعيّ الذي لا نظيرَ له.ألاحظ بدقةٍ بالغةٍ -حين أضطر إلى مواجهة الناس- نظراتهم إليّ، وأترجم نبراتِ أصواتهم خلالَ التحيّة، وأقرأ مقاطعتَهم حديثي على أنها صفعةٌ لشخصي، وقلة احترامٍ وتقديرٍ لي، فأنسحب بسهولة، وأعود إلى عزلتي.وأعذر تمامًا الناسَ الذين يتهامسون بأنّي غريبُ أطوار، وأفهم قلقهم من تواجدي حولهم، بكلّ ذاك الصمت وعدمِ المبادرة إلى الحديث اللذين أبديهما. لكنّني أدرك في داخلي أنّني لم أعد أحتمل تعليقًا واحدًا مؤذيًا. ولا حتّى نظرةً واحدةً مستهترة. حتّى إن زالت كل العوامل التي كانت تدفع الآخرين إلى السخرية مني قبل سنوات، فآثارها باقيةٌ تتمدّد كخلية سرطانيةٍ في ذهني، تتراكب فوق بعضها وتجتمع مع سابقاتها، وتمعن في كسرِ خاطري مرةً بعدَ مرّة.صار القلقُ من آراء الآخرين نمطًا لتفكيري، كل أشكال التواصل الاجتماعيّ صارت عبئًا لا يطيقه قلبي، ولا يفهم المقرّبون مني معناه."أين أخطأت؟"، أسأل نفسي باستمرار فلا أجد جوابًا.حدّقت في الظلام يومًا وانهمرت من عيني دمعةٌ وأنا أتمتم: "كان يمكن لي أن أكون إنسانًا سعيدًا وناجحًا ومحبوبًا، لولا نذالتكم غير المبرّرة.."، كلّما نطقت بشيءٍ من هذا القبيل بيني وبين نفسي أتخيل أصوات الضحكات تلاحقني وتقول لي إنني "أبالغ"، وإنّني "دراما"، وإنّني "فتاةٌ صغيرة مائعة".طبعًا، سيرى الجميع أنّني أبالغ، لأنهم هم الذين يلعبون الدور الأقوى في اللعبة. لأنهم غير قلقين. لأنهم ليسوا مرضى بالشكّ والخوفِ مثلي. ما الذي يفعله المريض سوى أنّه يقوم بشيءٍ غيرِ مألوفٍ بالنسبةِ إلى الشخص السليم؟ أفكّر بهذا، وألحظ مرةً أخرى أنّني أقلق حيال آراء الآخرين الوهميّة، حتى تجاه أفكاري الخاصة الخافتة التي لا يسمعها غيري.


(5)

ربّما لم أتواصل مع شخصٍ بكثافة طوال عمري، سوى الفتاة التي كانت تكتب لي "روعة". هل تعرفون الشعور الذي يسيطر على شخصٍ يجد خلاصه الأخيرَ في شخصٍ آخر، أو حتّى كلمةٍ منه؟ هل تستطيعون تخيّل أن يكون هناك شخصٌ واحد في العالم كلّه، تستمدّ منه رغبتك بالاستمرار في الحياة، والصّبر عليها؟ كانت تلك الفقرة الوحيدة في حياتي كلّها، التي يبدي فيها أي أحدٍ اهتمامًا خاصًا بي. بي أنا. دون أن أطلب. دون أن يضطره أحدٌ إلى مجاملتي.كانت تكتب لي، وأكتب لها. لم أكن أعرف شكلها أو صوتها أو حتى اسمها، إذ كانت من أولئك اللواتي يسمّين أنفسهنّ بأسماء وهمية في الفيسبوك، وقد اختارت لنفسها اسمًا لم يكن ينقصني ليزيد شقائي فكان اسمها "أميرة الأحزان"، لكنّ ذلك لم يكن يهمّني. كنت أرتقب رؤية الضوء الأخضر بجانبِ اسمها كي أنشر نصًا في مدونتي لتقرأه. كانت جمهوري الوحيد. وكانت تملأ روحي بالثقة التي أفقدها حالما أواجه العالمَ خارجي.سألتني مرة: "ألن تنشرَ كتابًا يومًا ما؟" ودون أن أجيب، قالت: "سينتشر في كل الدنيا، لكنّني سأكون أوّل من يقرأ."وعدتها أن أعمل جاهدًا على أن أخرجَ من الظلّ، وقالت إنّها تنتظر ذلك بلا صبر.

***

بعدَ أسابيع من حديثنا استدعاني أستاذٌ في الجامعة لا أعرفه، ولدهشتي، قال لي إنّه قرأ معظم نصوصي في مدونتي الخاصّة، تلك التي لم يدخل إليها منذ سنواتٍ سوى صديقتي الوحيدة، وآخران ربّما دخلا إليها خطأً.ناقشني في شيءٍ ممّا كتبت. وقال إنّه جدُّ مهتم بإنتاجي.وقضيتُ أيامًا أزوره ويزورني. كان مصرًا ومقتنعًا تمامًا بأنّي موهبةٌ مدفونة. وبأنّ كتاباتي يجب أن ترى النّور، بل إنّه عرضَ عليّ أن أقوم بتمثيلِ الجامعة في مسابقةٍ أدبيةٍ في بلدٍ آخر. قلت له بقلقٍ: "أنت تعرفني، لم أفعل من قبل شيئًا كهذا. وربّما صارت لديك فكرةٌ واضحةٌ عن قلقي المرضيّ من مواجهة الجموع البشريّة."هزّ كتفيه بلا اكتراثٍ بقلقي: "كلّ شيءٍ في الحياة له تجربةٌ أولى.. أراكَ غدًا."قد لا أكون محتاجًا إلى أن أشرحَ الرعب الذي لاحقني طوال الأيام التي كنت أستعدّ فيها للمشاركة. أخذت أراقب إيماءاتي وحركات فمي وشكل أسناني في المرآة، وأطلب من أمي مرارًا أن تصفَ لي مشيتي، تحلف لي أمي مصدومةً بأنّ مشيتي ممتازة، أسألها: "هل تشبه مشية البطريق؟" فتكتفي بالصدمة. لا بأسَ فالجميع في الأسرة يظنّ أنّني مختلّ عقليًا منذ سنوات.تدرّبت آلاف المرات على ما سأقدّم، محوتُ النصوص ونفضتها نفضًا، وقلقت حدّ الهلع، حين فكّرت بشعوري حينَ يضحك أحدٌ منّي خلال قراءتي كما كان يفعل الجميع.بحت إلى "أميرة الأحزان" بسرّي وخوفي، فبعثت لي فقرةً طويلةً فيها نصائح جيدةٌ للتغلب على الخوف، وقالت إنّها تثق بي. زرت الأستاذ في مكتبه عشرات المرات كذلك، لأعتذر عن المشاركة متدثّرًا بعشراتِ الحجج، فكان يصرّ على بقائي، ويتجاهل كل الأعذار الكاذبة التي أضعها بين يديه، حينَ يعلّق نظراته بي ويعرّيني من سرّي: "لا تخَف.."في يوم المسابقة شعرتُ بأنّ الأرض لا تدور. يداي ترتجفان، ومعدتي تؤلمني كأنّها تعاقبني على خروجي من قوقعتي.كان أستاذي يجلس إلى جانبي. نظرت إليه قلقًا وهمست: "هل تريد الحقيقة؟ أنا لست خائفًا، أنا مرعوبٌ تمامًا، أشعر أنّ قلبي الآن في قدمي اليمنى، وأخشى أن أخذلك هناك."قال لي لحظتها فكرةً عاديةً جدًا وعابرةً جدًا لسواي، لكنّها لمست في داخلي جرحًا قديمًا، وأبرأته. قال إنّ الآخرين أمامي يشعرون بالقلق منّي أكثرَ ممّا أشعر بالقلقِ منهم. يشعر الجالسون أمام الواقفِ بأنّه يقدّم لهم شيئًا يجهلونه، شيئًا جديدًا، ويخيفهم هذا، في منطقة اللاشعور. لذلك، يجب أن أعكسَ الأدوار في ذهني، وأقفَ منهم موقفَ الواثق من القلِق، وأجلسَ منهم مجلسَ العارفِ من الجاهل.


تماسكَ صوتي حتى نهاية العرض يومها، وحين توقفت عند النقطةِ الأخيرة من النّص لاحظت أنّني لم أتنفّس منذ بدايته، فأطلقت زفيرًا لاحظه الحاضرون كلّهم، قبل أن يصفقوا لي طويلًا.طويلًا جدًا -أو هكذا هُيّئ لي-.فزت بالمركز الثاني في تلك المسابقة. وعدت إلى أميرةِ أحزاني وإلى عزلتيَ التي خرجت منها أول مرةٍ بانتصارٍ أوّل، بثقةٍ خجولةٍ لم أعهد مثلها داخل قلبي وفي أنفاسي ونظراتي ومشيتي وابتسامتي.كتبتُ لها جملتين حييّتين: " لقد فزت. وعرفت أنّ الدنيا قد لا تحيجُ إنسانًا إلى أكثرَ من قلبٍ واحدٍ يثق به في ظلمته. ما الذي كان سيخسره العالم لو نظرَ إليّ يومًا كما نظرتِ لي؟.."استطعتُ بعدها أن أخرجَ منّي بإنسانٍ نصفِ قلِق. واحترفتُ قلبَ الأدوار حتّى كرهتُ ضعفي، واطّرحته بعيدًا.في المرةِ الأخيرة التي سخرَ فيها شخصٌ مني لسببٍ لا أذكره، ابتسمت طويلًا محدّقًا بضعفه، حتّى أشاح عني قلِقًا.فقدت الضحكاتُ السخيفةُ صداها منذ تلك اللحظة، وضعُفتْ تمامًا في أذنيَّ إلى أن تلاشت.


***


Comments


© 2024 by Mariam Safadi. 

bottom of page