top of page
Leaves Shadows

جــريــدة

  • Writer: مريم الصّفدي
    مريم الصّفدي
  • Jan 25, 2024
  • 2 min read

هدوء الشارع مخيف.. وكأنّ الليل عندما يخيّم على مكانٍ يصمهُ بطبعةٍ من السكون والظلام البارد..

يحدّث نفسه وهو يمشي، ويكادُ يجزم أنه ليس من هنا، وأنّه لم يألف هذا المكان من قبل..

تتردد في ذهنه كلماتٌ مقتطعةٌ من قصيدةٍ لدرويش : "أنا للطريق.." ، لكنه لا يحفظ من القصيدة غيرَها..

حقيقةُ تحوّلِ سكان الكرة الأرضية إلى مجرد أرقامٍ وإحصاءات، جعلته يفقد انتماءه إلى هذا المكان حتّى نسيه تمامًا ..

ربّما كان يصعب عليه أن يجد نفسه، ويأبى عليه كبرياؤه أن يعرّف ذاته، حيثما عدد الناس الموجودين معه في نفس المساحةِ أكبر من عدد حروف صفحاتِ جريدةٍ مهترئةٍ ما، مرميّةٍ على قارعة الطريق..

حتى عندما حاول التقاطها ليلقي عليها نظرةً قد تساعده في فهم هذا العالم، بدأت تحترق أفكاره وأحلامه معها، كورقةٍ هشّة ضعيفةٍ، تتطاير في مهب الريح فيغذي الهواء الذي تتنفسه النيرانَ التي تأكلها..

وجد نفسهُ -وهو الذي كان يريدُ أن يمر عليها مروراً عابراً ثم يعودَ فيبحث عن عالمٍ آخر- ، محتجزاً بين صفحاتها..

بين صدقٍ وكذبٍ ، وحقائقَ وهراء ، وأخبارٍ مكرّرة ، وأرقامٍ مؤلمة، وصفاقةٍ صريحةٍ من المسؤولين.. ووجد نفسه (بلا أدنى محاولةٍ للمقاومة أو الإنكار) جزءاً من هذه الصفحات، ورقماً -شاء أم أبى- من هذه الأرقام..

ساءهُ أنّ هذه الجريدة كانت محاولةً لاختزال هذا العالم في كلمات..

وساءه أكثر : أنّها محاولةٌ ناجحةٌ إلى حدٍ ما، وأنّ هذه هي ( حقاً ) حقيقة العالم الذي احتُجز فيه حالما التقط الجريدة..

يريدُ أن يرميها مجدداً من يده، لكنّه وجد فيها نفسه..

وجد ملامحه في صورةِ طفلٍ حافٍ من المخيّم ، تأمّلها ..

ثم عاد فقرأ اسمًا يشبه اسمه ، في عامودٍ صفّ فيه كلامٌ كثيرٌ عن البطالة ، والعطالة، وطاقات الشباب الضائعة، وأحلامهم المسفوحة..

وكتم أنفاسه وهو يلاحظ أنّه تضايق من خبرٍ على هامش الصفحة عن رفع الضرائب، وغلاء الأسعار .. تأكّد أنه يمتزج وهذا الواقعَ كخليط، وأنّه ليس منفصلاً عنه بأي حال..

مرعبٌ أن تكتشف فجأةً أن هذ العالم بأكمله شيءٌ من خصوصياتك.. والمرعب أكثر : أن يتبعه شعورٌ مخيف ، بأنّه كذلك (بكل مساوئه ودماره وخرابه) شيءٌ من مسؤولياتك..

رائحة أحلامه التي بدأت تفوح من رأسه وهي تحترق صارت أقوى وهو يقلّب صفحات الجريدة بسرعة، فيتأكّد أنه متجذّرٌ هنا كشجرة هرمة..

بين هذه الأخبار الحزينة، والصرخات المكتومة بين السطور..

وصل إلى الصفحة الأخيرة من جريدة ذاته، وسمع صوتاً يصرخ به من شباكٍ في الحي :

يا أخي اترك الجريدة، رائحة الدخان الصاعد من رأسك قتلتنا، واخفض صوت أحلامك فلا تقلق سباتنا، هذه جريدةٌ يصدر منها عددٌ كل يوم، فعد إلى بيتك، والزم الصّمت، واشترِ في الغد عدداً آخر، لن تهرب الدنيا!


***

Comments


© 2024 by Mariam Safadi. 

bottom of page