top of page
Leaves Shadows

ســـيـــّارة

  • Writer: مريم الصّفدي
    مريم الصّفدي
  • Jan 24, 2024
  • 4 min read

حدث كلّ شيءٍ في عشرِ دقائقَ بالضبط.

كان نهارًا شاقًا، تريدُ أن تركبَ سيارةَ أجرةٍ لكنها لا تملك ثمنَ ذلكَ في جيبِها. لا خيارَ لديها إلا أن تعودَ إلى بيتِها مشيًا، كما العادة. الشمسُ باهتة، والنهار يؤولُ إلى نهايته، والطريق يبدو قصيرًا، فقط لأنّ اعتيادَ الأشياءِ يقزّمُها.

لا بأس في أن تمشي. المشي خُلقَ في أساسِه للمعوزين أمثالِها، أمّا الأغنياءُ فيولدونَ وتحت أقفيتهم ما يُقلّهم فوق الطّرقِ كلها، ويطوي لهم المسافات.

الشارع تحتَ أقدامِها متشقّقٌ في خطوطٍ معوجّة، والحفر فيه تملؤها مياه سوداءُ لا انعكاس لصورةِ الأشياء عليها. لا تدري أكانَ الشارعُ بهذا السوء حقًا أم أنها تلاحظ بشاعتَه بدقة؛ فقط لأنّها كانت تودّ لو تركب سيارةً لا تُريها هذه الشقوقَ والحفرَ عن قرب؟

طبعًا، التفاصيل هذه تافهةٌ ومكرّرةٌ جدًا، رغم محاولتها أن تستمتع بشيءٍ جديدٍ خلالَ المشيِ دائمًا، أن تجدَ شيئًا مختلفًا، استثنائيًا. لا شيءَ يختلفُ في هذه المدينةِ المملّة البتّة.

هذه الدقيقة الأولى.

***

في الدقيقةِ الثانية:

سيّارةٌ فارهة تتهادى إلى جانبها ببطء، ثم يُفتح شباكها الأسود فيظهر خلف مقودها رجلٌ أربعينيّ بنظارة شمسية، يناديها بمرح: "يا صبية، وين طريقك؟"

تلتفت حولها، هل يتحدث معي؟

يعود "فيزمّر" بجانبها، تسترق نظرةً إليه مرةً أخرى فتجده ملتفًّا بكلّه نحوها، تسأله بارتباك: "أنا؟" يهزّ رأسه ويكرّر بصوتٍ أعلى: "طريقك طريقك؟ وين رايحة؟"

المسافةُ بين سؤاله وردّها استغرق 7 ثوانٍ بدت لها في عقلها نصفَ ساعة. الاحتمالات كالآتي: إما أنه يعمل بالأجرة في سيارةٍ خاصة، وإما أنه يريد أن يخطفها. لكنّ هيئته الفارهةَ لا تشي بأنّه يعملُ بالأجرة، لذا فالواضحُ أنّه سيخطفُها، وربّما يبيعُ أعضاءها.

-"ليش بدك تعرف طريقي؟!"

-"بدّي أوصلك، اركبي.. "

-"لا، يسلموا.."

-"ولك اطلعي، والله العظيم بوصلك وين ما بدك، اطلعي!"

-" ما بدي توصلني شكرًا، قربت أوصل.."

لماذا تستمرّ بالحديث معه؟ تستغلّ مدّةَ إجاباتِها السريعة لتركّز في هيئته أكثر، وشومٌ كبيرة تغطّي ساعديه الضخمين، وخاتمٌ أسود يحتل مساحةً كبيرة من خنصره.

***

تمشي على عجلٍ فوق الرصيف، ويمشي هو بسيارته بمحاذاتها. يناديها مرةً أخرى: "طب اسمعي، بس بدي أكسبك زبونة عندي بالمحل!"

تلتفت حولَها الآن. الدنيا نهار، وهي في شارعِ محلاتٍ تجارية، لن تخسرَ شيئًا إذا استمرّ الحديث مع هذا الغريب دقيقةً أخرى. على الأقل، لم يتحدث إليها أحدٌ "جديد" منذ مدةٍ طويلة، ولا بأس في أن تفهمَ الذي يريده منها.

تخفف حدّةَ خطواتها، تسأله بقلقٍ دون أن ترفع عينيها عن الرصيف: "محل شو؟"

-" محل ألبسة نسائية، بالصويفية، والله باخدك عليه وبهديك منه اللي بد..."

صوته غير واضح، يصرخ من داخل السيارة كي تسمعه. تنظر إلى ثيابها التي لم تجد غيرَها لترتديه في الصباح، وكلّ صباح. تستمرّ بالمشي وتفكّر. تعود وتنظرُ خَطفًا إلى الوشوم على يده. تشعر أنّ ما تفعله خطأ، تبتعد بكلّها عن المشي إلى جانب سيارته وتعود إلى طرف الرصيفِ البعيدِ مسرعة.

" طيب اسمعي، نروح أنا وياكِ نتغدى؟ بس بدي أحكي معك شوي، والله!"..

"صدقيني بلبسك أحلى لبس، على فكرة أنا عايش بلوس آنجلوس.."

ضحكت بخفّةٍ وتوقفت بعد أن بدأت تمشي، تنازلت عن شيءٍ من توتّرها:

- "شو إذا حكيتلي عايش بلوس آنجلوس بطلع معك يعني؟"

ضحك هو الآخر، انطلقَ بوق سيارةٍ عالٍ خلفهما، فسارَ بسرعة وفرّق بينهما الطريق، وابتعد..

***

تابعت بعينيها سيارَتَه وهي تختفي بين جموع السيارات، وعدّلت وضعَ حقيبتها فوق ظهرها..

"ما الذي حدثَ الآن؟ هل كنت أحدّث رجلًا غريبًا من شباكِ سيارةٍ يفوقُ ثمنها ثمنَ منزلي؟ ما الذي دفعهُ للكلام معي؟ لا يبدو أنّ لديه نوايا إجراميةً إلا من الوشوم الغريبة على عضلاته. لماذا يركّز على ذكرِ ممتلكاته لي؟ ألهذا الحدّ يظهر فقري عليّ ليستميلني بما عندَه؟ هل رِثّةُ ثيابي جليّةٌ إلى هذه الدرجةِ ليقول لي إنّه "سيلبسني أحلى لبس"؟!

حابب يتعرف علي.. لا بدّ من أني لم أسمع جيدًا.. لمَ قد يحبّ رجلٌ ثريٌ مثله أن يتعرف إلى فتاةٍ مثلي؟ ما الذي لفتَه في هيئتي؟! هل رآني جميلة.. معقول؟

سمعت كثيرًا عن هؤلاء المختطفين والكذّابين، ولم يسبق لي أن رأيت واحدًا. لكنّ هذا الشخص، كان يبدو عليه أنّه مختلف، كانَ يبدو أنه معجبٌ بي حقًا.. لا أدري.. لا بأس، اختفى الآنَ وانتهى كلّ شيء."

***

عند نهايةِ الشارع رفعت رأسَها فوجدته واقفًا مرةً أخرى، شيءٌ خفيٌّ داخلها طرِبَ لرؤيته مجددًا. تتظاهر أنها لا تراه وأنها تعبث بشيءٍ في حقيبتها.

ناداها من الشباك:

- " اسمعيني لو سمحت، ممكن توقفي مشي، بس دقيقة "

- " نعم؟ "

- " ممكن نحكي؟ أنا عزّابي، مش متزوج، حبيتك، وبدي نتزوج"

يطرق قلبها طرقاتٍ متتابعة. هل تحلم الآن؟ شيءٌ ما يلحّ عليها:

"لمَ لا؟ حقًا، لمَ لا؟ لماذا لا يكون هذا ملاكًا منزلًا من السماء ليحلّ عني فقري وظروفي الصعبة؟!"

تستجمع قوتها، ترفع عينيها نحوه وتقول بصرامةٍ مفتعلة:

-" بدك تتزوج؟ هيك من الشارع؟! "

-" ليش لأ؟ شفتك، وحبيتك! "

هذه الدقيقة السابعة، الشارع كادَ ينتهي، وهي تقترب من بيتها، بدأت تثق به، لكنّها لا تثق به. لا تريده أن يعرفَ مكانَ سكنِها، مصيبةٌ إن كان مُجرمًا، وعرفَ أين تسكن.

" هل أضلّله؟ هل أبتعد؟ هل أركض؟ هل أصرخ؟ هل أصعد في السيارة، وأرى ما الذي سيحدث؟ "

***

تستمرّ في السير ويلاحقها من شارعٍ إلى آخر، يزيد من سرعة سيارته ليوافيها عند نهايةِ كلّ شارع، تتوتّر، لكنها تريد للسيناريو أن يكتمل، تريد أن تعرفَ النهاية، وهي في داخلها، مسرورةٌ بهذا الإصرارِ منه؛ لأنّه مؤشرٌ لها على أنه لا يكذب، ربّما.

***

- " ليه بتهربي؟ والله ما بدي اشي غير أحكي معك! قربي شوي، مو سامعك!.."

اقتربت بتوجّس، أبقَت مسافةَ أمانٍ بينها وبين السيارة. زجاج السيارةِ النظيف يلمعُ تحت أشعة الشمس التي بدأت تتخلّى عن المشهد. نظرت إليه بتمعّن، يبدو من هيئته أنّه ثعلبٌ كبير، وأنّه أربعينيّ رياضيّ، وأنّه كاذب.

يقول لها وهو يشعل سيجارةً في يده:

- " ليه خايفة هالقد؟ "

- " مش خايفة.."

- " اركبي إذًا "

- " ... "

- " صدقيني ما بدي اشي منك.. عن جد حبيتك.."

يقولها بنبرةٍ خفيضة جدًا، ومُقنعةٍ جدًا، ودافئة، لفتاةٍ لم تسمع الكلمةَ من قبل.

- " رح أعيشِك ملكة، صدقيني.. "

- " قربت أوصل.."

- " بوصلك لهاد اللي قربتِ توصليله.. "

تنظر إليه، تقترب خطوة، الشارع الآن خالٍ تمامًا، إذا ركبَت وطارَ بها مبتعدًا إلى حيث لا تدري لن يعرفَ أحدٌ ما الذي سيحلّ بها. لكنها تستطيع أن تتصرّف. ربما تصرخ. أو تفتح الباب وتقفز. لكنّها إن ركضت الآن، ستضيّع فرصةً قد تغيّر حياتها، حياتها المملّة، القديمة، الباردة، البشعة كبشاعةِ ذاكَ الشارع المتشقّق القذر، وهذا الشارع أيضًا.

يدخّن سيجارته وهو ينظر إليها. تمسك مقبض البابِ وشيءٌ في ذروة الموقف يصفعُ إحساسها، فلا تصعد. فكّرت للحظة. للدقيقةِ العاشرة. " ما الذي أفعله؟ "

تركت مقبض الباب بسرعةٍ وابتعدت خطوتين كأنّ بها مسًا. صرخ بها وقد نفد صبره:

- " اركبي! "

ركضت بكل ما عندها من خوف. من نقص. من فراغ. دون أن تلتفت إلى الوراء لترى في أي داهيةٍ انطلق.

***

في بيتها أدارت المفتاح في قفل الباب ثلاثَ مراتٍ بدلًا من واحدة، ورمت نفسَها على الكرسيّ المهترئ الأول.

حدّقت في الحائط، تتخيل محل الألبسة، والسيارة، والخاتم، ولوس آنجلوس..

"لقد كنت على شفا حفرةٍ من أن أخسر كل شيءٍ، لأكسبَ شيئًا لا أعرفه.. "

تصمتُ وتراجعُ جملتَها الأخيرة وهي تحدّق مرةً أخرى في بيتها المتهالك، الكئيب.

"ما الذي كنت سأخسره حقًا؟ .."

ابتسمت للسؤالِ بخيبةٍ كبيرة. رمت حقيبتها بعيدًا، أغلقت الستائرَ وعادت إلى الباب ففتحت القفلَ الذي أدارته ثلاثَ مرات، ونامت.


***

 

Comments


© 2024 by Mariam Safadi. 

bottom of page