top of page
Leaves Shadows

قَـــهـــاوي

  • Writer: مريم الصّفدي
    مريم الصّفدي
  • Jan 24, 2024
  • 3 min read

(١)

تقلّب صفحات الفيسبوك آخرَ المساء، توقّفَ ابنها عن البكاء قبلَ نصفِ ساعة، هذه النصف ساعة الوحيدة التي حظيَت فيها بسكونٍ منذ بداية النهار. يمرّ بها "بوست" على صفحة اسمها (آخر روقان):

"القهوة، لا تُشرب على عجل، القهوة أختُ الوقت، تحتسى على مهل، القهوة صوتُ المذاق..."

تتذكّر فنجان القهوة الذي كانت تعدّه في الصباح قبل أن يأتيَ النجارُ بغتة، تذهب إلى المطبخ، وتجد القهوة منسيّةً، مسكوبةً في كلّ مكان، وتضطرّ إلى التنظيف من جديد.


(٢)

تقول المذيعةُ باصطناع واضحٍ للعمق والهدوء والنّبرِ في الحروف: "القهوةُ... لا تُشرب على عجل.. القهوةُ... أختُ الوقت... تُحتَس..."

يقاطعها فيطفئ المذياع وهو يلفّ مقود السيارة بعنفٍ نحو مسربٍ آخر، ظانًّا أنه سيتجاوز الزحام: "أخت الوقت على أخت القهوة على أخت الأزمة..."


(٣)

في محاضرة الساعة الثالثة، يحاول الأستاذ اجتذابَ الطلبة المالّين ليسمعوا منه عن محمود درويش. يقول: "ماذا تعرفون عن درويش؟"

صمتٌ يخيّم على الجميع. تُسرع فتاةٌ إلى "ويكيبيديا" وتقرأ: محمود درويش، وُلد عام ١٩٤١، أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعالميين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن. يعتبر أحد أبرز من ساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية ...

يقاطعها الأستاذ: "لا أريد معلوماتٍ من الإنترنت، ماذا تعرفون أنتم عنه؟ ماذا تحفظون من شعره؟"

تصحو أخرى من غيبوبتها، تتفقد هاتفها، تبحثُ عن تلك الصورة التي رأتها في الصباح وذُيّلَ ما فيها باسم محمود درويش، ترفع يدها ببطء وتقرأ: "القهوة.. لا تُشرَب على عجل.. القهوة أخت الوقت، تحتَ، تُحتَسى؟ آه تُحتسى، تُحتسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمل في النفس وتغلغلٌ، ايش؟!! تغلغل؟! ههههه"

تضحك الطالبات، تعترض أخرى:

- "دكتووور، هادا مش شعر"

يقول الأستاذ: هل أنتِ متأكدة أن المقولة لدرويش؟

- "دكتور هيك مكتوب تحت الصورة.."


(٤)

يطرق الباب سبعَ مرات قبل أن ينفد صبره، تفتح المعلّمة وتستقبله ووجهها ملتفتٌ عنه، تتناول منه الأكواب وهي تتابع الحديث مع المعلمات.

- "شكرًا أبو ياسين، غلبناك"

- "ولا يهمك"

عشر دقائق تمرّ، ينادونه معيدين الأكواب كما هي:

- "أبو ياسين! اغليلنا دلّة تانية، بردت هاي!"

يغمغم: "طبعًا بدها تبرد وانتو نازلين (برم) من الصبح"

يغلي القهوة مرةً أخرى ويعود، تستقبله المعلمة نفسها التي يبدو أنّهن انتدبنَها لشؤون التواصي على القهوة واستلامها. تقول بمرح:

- "بالله سامحنا أبو ياسين، ما انت عارف القهوة هاي بتنشربش باردة وعالسريع، اليوم الصبح كانوا يقولوا عالإذاعة: القهوة أخت المزاج والرواق.."

عادَ أبو ياسين بعد نهاية الدوام ينظّف غرفةَ المعلمات، فوجدَ أنّ الأكوابَ التي شُربَت ما زالت ممتلئةً إلى النصف.


(٥)

الجوّ متوتر، لكنّه توترٌ مشحونٌ بسرورٍ بادٍ على الجميع، إلا على أخيها فيما يبدو.. ينتهي الأبوانِ من حديثٍ مضمّخ بمجاملات برائحة البخور والتقاليد، والشاب "العريس" جالس باستحياء لم يُعهد منه، يقرؤون الفاتحة، ويتناولون فناجين القهوة من الطاولات أمامهم، لا يرفعُ الشاب عينيه من صورةِ سطح الفنجان.. يشربه على مهل، حقًا إنّ القهوة "تأمّلٌ وتغلغلٌ في النفس والذكريات".. أي ذكريات؟ هذه الذكرى الأولى الحقيقية التي يستطيع تسجيلها الآن. هذه البداية. يودّ لو يحمل فنجان القهوة معه إلى بيته ويخبئه تحت وسادته، يودّ لو أن ما فيه لا ينتهي..

يقومون جميعًا ويصدح الأب: "دايمة يا جماعة الخير.."

يردّد هوَ في قلبه: "دايمة، عن جد دايمة!"


(٦)

جلسَ في نهاية الصفوف. تحاشى الجميعَ كي لا يحدّثه أحد ولا يواسيَه بكلماتٍ تافهة. عيناهُ مخضلّتان، وشخصٌ ما جالسٌ في مقدمة الصفوف يحدّث جموعَ المعزّين عن الصبر: "يا إخوان ربنا عز وجل بيقول: "أينما تكونوا يدرككم الموتُ ولو كنتم في بروجٍ مشيّدة"، يا إخوان والله الدنيا هاي ما بتسوى عند ربنا سبحانه وتعالى جناح بعوضة، يا إخوان كم واحد كان معنا مبارح بيوكل وبيشرب وبيشتغل وهلأ هو تحت التراب، وقاعدين نشرب قهوته! "

نظرَ إلى كوبِ القهوة (السادة) الصغير في يده، البخار يتصاعد منه، ورجلان يمشيان بين الناس يصبون لهم مزيدًا من هذا السواد والمرار. راقبَ كهلًا بجانبه "كرَعَ" الكأسَ في جوفه مرةً واحدة دون أن ينتظر، دون مهل، دون مزاج، دون ذكريات، وقامَ من كرسيه دفعةً واحدةً أيضًا: "عظم الله أجركم يا جماعة"..


***

Comments


© 2024 by Mariam Safadi. 

bottom of page