ســِجـــن
- مريم الصّفدي
- Feb 1, 2024
- 3 min read
منذ اللحظة الأولى التي يبدأ فيها وعيك بالتشكّل، لنقل في عمر الرابعة أو الخامسة، يبدأ العالم بحشو دماغك بنمط موحّد بين شعوب العالم، يقوم على فكرة طمّاعةٍ واحدة: الرّكض.
الركض اللانهائي في خطّ متصاعدٍ متراتب، يتحوّل في مفاصل معيّنة إلى حلقةٍ مفرغة من التعب والمقارنات الاجتماعيّة التي تفضي إلى نتيجةٍ أحاديّة منطقيّة:
العالم كلّه موضوع في قوالب جاهزة على درجاتِ سلّمٍ ماديّ كبير.
ومن يتعثّر في رسمِ خطةِ حياته وفقًا لتراتبيّة هذا السلم والمسافة المثاليّة المحدّدة بين درجاتِه يسقط إلى الأبد.
افعل كذا ثمّ افعل كذا. افعل هذا قبل أن تفعل ذاك. أنهِ المرحلة الفلانيّة -مهما بدت مُعيقةً أو غير مناسبة- ثمّ انتقل إلى المرحلة العلّانية –مهما رأيتَها زائدةً أو غير ضروريّة-.
خذ فكرة "المدرسة" على سبيل المثال.
يولد الإنسان حرًا ثمّ يزجّ به في المدرسة.
يدخل بوابة هذا النظام المصكوكِ العصيّ على التغييرِ الذي سيحكم حياته إلى أن يموت.
يعلّمه أن يقدّس التعليمات والأوامر ويقدّمها على تفعيلِ الحدسِ وسبر غور الحياة التي وُلد فيها.
يقتل فيه البحث عن الحقيقة والجمال ليركضَ به إلى عجلة المادة والإنتاج. ويقيّمه معياريًا ويحدّد قيمته كإنسان بناءً على حجم هذا الإنتاج الماديّ المصروفِ من رصيدِ روحه أولًا وآخرًا.
يصبّ في أذنيه وروحه كميّةً محدودة ومكرّرة من الهراء المكدّس في قوالب تُصاغ على أنها معرفيّة ومهاريّة. قوالب جامدة إلى درجة أنّ مجتمعاتٍ كاملةً مليونيّةً تحتاجُ عقودًا لتغييرها وتطويرِها:
مدّ يديك إلى الأمام وإلى الأعلى في طابور الصباح (على أساس أنّها رياضة). امشِ إلى صفك بين الخطين المستقيمين. اجلس بجانب الشخص نفسه سنةً دراسيّة كاملة. طوّر مهارة العمل الجماعيّ مع مجموعتك التي اختارها المدرّس لك مسبقًا بناءً على مستواك المُفترض. تخيّل أنك بذرة قمح على وشك أن تدخل إلى الفرن لتتحول إلى رغيف خبز، اكتب موضوع تعبير لا يتجاوز صفحة على لسان رغيف الخبز. عدّد الأسباب التي أدّت إلى قيام الثورة العربية الكبرى (٣ علامات ونصف). اكتب ستة أبيات متتالية من محفوظاتك من الوحدة السابعة. ضع إشارة صح أو خطأ إلى جانب العبارة الآتية مع تصويب الخطأ (من صفات المواطن الصالح أنه يدفع ضرائبه عن طيب خاطر). ارفع رأسك. أنزل رأسك. قف للمعلم. لا توفّه التبجيلا الآن، لدينا مقرّر يجب أن ينتهي. اصمت مدّة 45 دقيقة. ارفع يدك إذا احتجت للكلام. ارفع قدمك إذا احتجت للذهاب إلى الحمام. ارفع يديك الاثنتين إذا احتجت إلى شرب الماء. مصفوفة من التعليمات والمعلومات والأفكار التي عفا عليها الزمن، ضمن نظام تقييم مذهل في تبسيطه لدماغ الإنسان وتهميشه لفضوله وقدرته على الإبداع والاكتشاف والاختلاف والتجديد والسؤال. قوالب تجعلك تفقد نفسك تمامًا حين تنظر إلى المرآة وترى ملامحك تذوب وتنصهر في ملامح نظامٍ يبتلع كلّ شيء ويحوّلك إلى كتلة مملة من الرّموز والأرقام.
حتى المعاني الإنسانيّة الكبرى تغدو ضمن هذه القوالبِ الفارغةِ أضحوكةً كبيرة. يتحوّل الحب من كونه شعورًا إنسانيًا ساميًا وتجربةً عذبةً إلى أن يكون صفقةً وإنجازًا آخرَ يضاف إلى قائمة الشطب التي تركض وتلهث كي تنهي بنودَها واحدًا تلو الآخر. وينتهي الإبداع إلى سقفٍ مداهُ الالتزام بمعايير وشروطٍ وأحكامٍ وقوانينَ تحوّل إبداعك من شيءٍ حرّ وانسيابيّ وخلّاقٍ إلى مهزلة تجاريّة تُباع وتشترى وتصوَّر ويسوّق من خلالها لمؤسّسة ما، حتى إن كانت أبعدَ ما يمكن عن القيمة والمعنى.
كبرتَ واكتشفت الخدعة، واكتشفت أنّك غير مؤهل للقرارات التالية التي ستحكم شخصيّتك ومستقبلك ونفسيّتك وعلاقاتك بالنّاس وبالحياة. يقولون لك بنبرةٍ حالمة، متأخّرة: اتبع شغفك. افعل ما تحبّ. كن عبدًا للوظيفة التي "تحبها". يا لهذه النكات المتتابعة السّمجة التي يسخر بها العالم منّا، وننصاع إليها دون اختيار. يا لهذه المسرحيّة الكبرى التي جُرّ إليها مليارات البشر طوعًا أو كرهًا.
يا لهذا النظامِ البائس، يا لهذه المسرحيّة المستمرة، يا لهذا السّجنِ المملّ الكبير..
Comments