مشهدٌ عابرٌ في الخامسةِ والعشرين
- مريم الصّفدي
- Jan 23, 2024
- 2 min read
الماء يغلي في زاوية الغرفة. وأنت تحدّق في السقف، أو في الحائط المقابل، تفكّر في كل شيءٍ ينبغي فعله هذا النهار.
لم تعد الحياة تجري وفق نمطٍ محدّد. لم تعد تجري ضمن أيّ نمطٍ بالأحرى. خاصّةً أن زمن الجدول المدرسيّ المفروضِ عليكَ فرضًا قد ولّى، وأنّ زمن الجامعة، بروتينه الفصليّ، وطقوسِه التي قضيتَ عدّة سنواتٍ في تشكيلِها، ولّى هو الآخر، وأصبحتَ الآن على قارعة الطريق، بلا قيود، بلا إرشادات، بلا أطواقِ نجاة، بلا محرّكات، بلا مكابح، بلا سكونٍ كافٍ، بلا روتينٍ مطَمئِن.
قائمة المهامّ لم تعد عمودًا واحدًا من الواجبات المعنونة تحت: "رياضيات، علوم، لغة عربية، لغة إنجليزية، تربية مهنيّة"، بل صارت أكثرَ تشابكًا وتفرّعًا، واهتزازًا. وكل بندٍ منها أضحى يتعلّق بتكوينِ ذاتك القادمةِ التائهة: صارت دراسةً، وعملًا، وعلاقاتٍ اجتماعيّة، وعاطفةً مُرتبكة، ومسؤولياتٍ ماديّةً خجولةً أو ضخمة، وصارت مخاوفَ وتطلّعات، وتحديدًا للمسارات، وتعاملًا مع التحديات التي ما زلت تكتشفها في العالم الحقيقيّ، هذا العالم ذي الأنيابِ الذي لم تكن تعرفُه داخل فقاعاتِك القديمةِ، المريحةِ، الطريّة، تلك التي كانت تحرّكك بلا عناء، وتُعفيكَ من إدارةِ المشهد.
الماء يغلي في زاوية الغرفة.
وعقلك يغلي في زاوياه كلّها، لكنّك لا تريد النهوض حقًا.
الآنَ يأتي دور أسئلتك الوجوديّة. ما يعنيه هذا هو أنّ قائمة المهام المعلّقة على حائطك الكئيب تحتاج تأصيًلا فلسفيًا معمّقًا، يُصاغ بشكلٍ ضبابيّ: ما الذي يريده العالم ببساطة؟ من صمّم هذه القائمةَ الجديدةَ التي لم أعد أُحسِن السيطرة عليها؟ لماذا أفعل ما أفعل؟ وإلى أين سأصل؟ وهل سأصل أصلًا؟ وما المرحلة الآتية؟ ومتى تأتي؟ ومن سيكون معي فيها؟
من معي؟ هل معي أحدٌ الآنَ حقًا؟
أين رحلَ الآخرون؟ الآخرونَ القدامى؟ أولئك الذين شاركوني مخاوفَ بسيطةً جميلة، كنّا نصوغها بكلماتٍ حُلوة، طفولية، ثم ننتهي إلى ضحكٍ عميق، واستلقاءٍ على الأرض بلا اكتراث، كأنّ الغدَ لا يأتي. كأنّ مخاوفنا مزحةٌ ساذجة، وهراءٌ بعيدُ المدى، اخترعناه لنسلّي أنفسنا عن الرتابة.
تغيّر الأمر الآن.
الخوف باتَ جادًّا، صمتَ الجميع، وغابوا في طرقاتِهم ساهِمين. يبدو أنّ الحياة ليست مزحةً في نهايةِ الأمر، ويبدو أنّ اللعبةَ دبّت فيها حياةٌ حقيقيّةٌ جدًا، فاستحالت متاهةً لئيمة، لئيمةً وقاسية.
الماءُ يزمجرُ الآنَ في زاوية الغرفة.
تنهضُ لتُسكته، وتُسكتَ نفسك. تراكمُ بنودِ قائمةِ المهامّ يُشعل فيك وقودًا من الرعب. تعرفُ قواعدَ اللعبة جيدًا: العالم في الخارج كلّه يغلي. وينتظرك رغمَ انشغاله عنكَ بغليانِه لتجدَ لنفسِكَ مكانًا فيه. إذا لم تتحرّك الآن، فستُحرقكَ نيرانُ الرّكود في النّهاية. ولستَ تملك هذه الرفاهية، لستَ تملكها الآنَ، على الأقلّ. وتأكلُكَ في هذه النقطةِ لحظةٌ كثيفةٌ من إدراكٍ قلِق:
“لم أكُن في الخامسة والعشرين من قبل. لكنّها المرة الأخيرة التي سأكونُ فيها في الخامسةِ والعشرين. وهذا يعني شيئًا. ولأنّه يعني شيئًا، يجبُ أن أنهض."
وعند هذه اللحظة، يبدو بكاء الساعةِ السابعة من صباحٍ مدرسيّ، أكثرَ منطقيّةً وصدقًا.
ترتدي ثيابك. ترتدي وجهًا. وجهًا عشوائيًا ما. ترتدي مزاجًا زائفًا لمقابلة بشرٍ كثيرين، يتحرّكون كثيرًا، يتكلّمون كثيرًا، يصدرون من الضوضاء شيئًا كثيرًا، ويضعونَ قواعدَ جديدةً للعبةِ كلّ يوم، وترتدي أنتَ أفكارك لهذا النّهار، بما يناسب تحرّكاتهم، إذ تتحرك وتتكلّم وفقًا لإيقاعاتهم، وتغلي معهم، في عالمٍ يغلي.
الماء.
نسيتَه في زاوية الغرفة.
هذه المرة الرابعة التي تعدّ فيها الماءَ لتشربَ فنجانَ قهوةٍ واحدٍ يُعينك على هذا النهار.
لكنّ الماءَ بريءٌ من برودته معك. أنتَ المَلوم منذُ اللحظة. منذُ هذه المرحلة العمريّة الفاصلة.
تركتَه يبردُ ببساطة، لأنّك تغلي بدورِك.
لأنّك ما زلتَ صغيرًا في الخامسةِ والعشرين.
ولأنّك كبيرٌ بما يكفي في الخامسةِ والعشرين.
يا مسكين..
Comentarios