مادّةٌ للتعديل
- مريم الصّفدي
- Jan 25, 2024
- 3 min read
يُقحمني الفيسبوك في مجموعات غريبة، لا أذكر أنّني انضممت إليها. ويُظهر لي مقاطع وصورًا لا أذكر أنّها كانت ضمن اهتماماتي أو نطاق بحثي كي تستمر الخوارزميات بإظهارها لي. خلال الأسبوع الماضي، ظهرت لي عشرات الإعلانات لعيادات التجميل مثلًا. ربّما لأن المجموعات الغريبة التي وجدتُ نفسي فيها، لا تفتأ تتحدّث عن عمليات التجميل بل التغيير الرهيبة التي قامت بها شخصيات مشهورة كأصالة وجويل وغيرهما، فظهرتا أصغر من عمريهما بعشرات السنوات.
الحياة غريبة جدًا، وما يجعلها أغرب هو هذه الرغبة المحمومة لدى البشر مؤخرًا بتغيير ملامح الزمن والعبث به. هذا الكم من انعدام التصالح مع الذات وتجاربها الذي يجعل الأشخاص يرغبون بانتزاع وجوههم تمامًا، وانتزاع أعمارهم معها. يرغبون بأن يكونوا على صورةٍ أخرى، في حياةٍ ثانية، بملامح وجودٍ ثالثة، ورابعة، وخامسة.
كلّ شيء في حياتكِ أضحى مادّةً للتعديل، هل لاحظتِ ذلك؟ ابتداءً من صورتك وألوانها، بل حتّى حجمِ عينيك وأنفك وفمك فيها، وليس انتهاءً بأن تغيّري شكلَ وجهك كاملًا حقيقةً، وشكلَ جسدك، وملامحك، ولونك، بل حتّى هويتك، وجنسك إن أردتِ (وأردتَ)، كلّ هذا وأكثر بمبلغٍ لن تهتمّي بقدره بطبيعةِ الحال، وثمنٍ نفسيٍّ باهظٍ لن تشعري بانفلاته منك إلّا بعد حين!
يا إلهي، كلّما درتُ أكثرَ داخل هذا الفضاء المجنون، شعرت برغبةٍ بالانزواء والاختباء، ما هذا الذي يقنعونَ الإنسان بفعله كلَّ دقيقة؟ لماذا يصرخون في كيانِه في كلّ زاويةٍ بألا يرضى عن حالتهِ ومظهره، ويُضطرَّ على الدوام إلى العبثِ بتفاصيلهما؟
لماذا أضطرُ إلى رؤية أجسادٍ من السيليكون، تقفزُ في وجهي لتقول لي إنّ أنفي كبيرٌ يحتاج إلى "نوز جوب"، و"بوتوكس" من الأطراف؛ حتّى لا "يفرش" عندما أضحك (!!!)، وإنّ شفتيّ غير ممتلئتينِ بما يكفي، ويجبُ أن أتداركهما بحقنةِ "فيلر" عاجلة، وإنّ النمش في الوجه علامةُ جمال تتسابق الفتيات لرسمها اصطناعيًا في وجوههنّ، آه عفوًا، لديكِ نمش فعلًا؟ لا بأس، الإعلان المخصّص لإقناعك ببشاعتهِ موجود: بإمكانك إزالة النّمش تمامًا بالتقشير "الكربوني" للحصول على بشرةٍ صافية. أجفان عينيك المتعبةُ يمكن أن نرفعها، بل أن "نقصّها" من أعلاها ونتخلّصَ من "الجلد الزائد"، ويمكنكِ أن تحصلي على عرض "غمّازتين" مجانيّتين غير موجودتين بالطّبع في وجهكِ الطّويلِ العريض وخدّيكِ المتهدّلين، المحتاجَين بالمناسبة إلى رفعٍ وشدّ وتدوير. سيكون الأمر أقلّ تعقيدًا إذا اشتريتِ "باقة" متكاملة من فيلر وبوتوكس وإزالةِ نمشٍ وتصبّغات، وشدِّ الوجه والذقن بالخيوط، وفركة أذن؛ لتعودي وتكرّري كل هذه العمليات بشكلٍ دوريّ.
هل يمكن أن أتوقّف هنا ليشرح لنا أحدٌ هذا الجنون؟ ومتى صارت ملايين الفتيات جمهورًا مستهدفًا لإعلاناتٍ وصورٍ لا تفتأ تخبرنا بأنّنا يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي -والجيوب طبعًا- أمام أشكالنا ووجوهنا وأجسادنا النّاقصة، تلك التي لا تشبه بشيءٍ صور الممثلات والعارضات، اللواتي لا يُشبهنَ بدورهنّ أشكالهنّ الأصيلةَ التي خلقهنّ الله عليها في شيء؟
ومتى صار هذا الوجهُ والجسدُ الذي يبالَغ في عرضه يومًا عن يوم، ولا يشكّل إلا نسبةً قليلةً من أشكال الإناث على كوكب الأرض، هوَ الشكلَ المعياريَّ الذي إن افترقنا عنه بتفصيلٍ بسيط، صارَ لزامًا علينا محقُ هذا التفصيلِ وكرهه، والبحثُ عن أيّ طريقةٍ لتعديله؟
ثمّة فتياتٌ كنّ على قمة الأنوثة والبراءة والجمال، لا يحتجنَ إضافةً ولا إزالة، دخلوا هذا العالم المريضَ ودوّاماته التي لا تنتهي من تجميلٍ وحقنٍ ونفخٍ ونحت، فتشوّهت خلقتهم تمامًا، كأنّهن تعرّضن إلى حادثٍ مروّعٍ إراديّ. لديّ صديقات لم يعدن يطِقنَ النظر في أجسادهنّ ووجوههن بشكلٍ طبيعيّ في المرآة، أصبحنَ مهووسين بإمكانيّة التعديل هنا والتغييرِ هناك، صار جسد الفتاةِ خريطةً عريضةً ملأى بعلاماتٍ وخطوطٍ وهميّةٍ تقنعُها بوجودِ خطأٍ ما، امّحى مفهومُ التصالح مع الذات والرضا بالجمالِ بل حتّى القدرةُ على رؤيته من قواميسنّ وأذهانهنّ، ولا تتحدّث الواحدة منهنّ حديثًا إلا وتُقحم فيه التذمّرَ من شيءٍ أقنعها الإعلامُ بأنّه عيبٌ في خلقتِها لا عيبَ في تقويمِه.
ماذا حدثَ "لأحسنِ تقويم" خلقنا اللهُ فيه؟
وهل كانت عميقةً إلى هذا الحدّ الثغراتُ في نفوسِنا التي استطاعت عجلة الرأسماليةِ الجشعةِ بكلّ ماكيناتها وكاميراتها وشركاتها أن تتسلّلَ منها فتسحقنا وتطحننا جميعًا بها، وتقنعنا بمجاراة هرائها وتصاويرها، ودفعِ الثّمن، ثمّ دفعه ثمّ دفعه، ثمّ دفعه مجددًا، والإدمانِ على ذلك؟
***
Comments