ستّةُ أكواب ملأى
- مريم الصّفدي
- Oct 3, 2023
- 3 min read
ترتاد المقهى الذي اعتدتُ الدراسة فيه مجموعةُ طالبات لا تتجاوز أعمارهنّ خمسَ عشرة سنة.
يأتينَ باستمرارٍ إلى المكان بعد انتهاء دوامهنّ المدرسي، يقضينَ فيه ساعةً أو ساعتين، ثمّ يغادرن.
تدخل زعيمتهنّ قبل أيام إلى المكان، تتفحّصه لتجد طاولةً مناسبة، ثم تشير لهنّ بجديّة بأن يتبعنَها. يجلسن على طاولة واحدة دائرية، ينحّينَ المشروبات التي طلبنَها جانبًا، وتنحني كل واحدةٍ منهنّ نحو المجموعة برأسِها وجسدها، ويتحدّثن بصوتٍ خفيض.
تتزعم إحداهنّ الجلسة، وتصغي الباقياتُ باهتمامٍ وقلق، كأنهنّ في اجتماعٍ مغلق لأعضاء مجلس الأمن، هدفه تحديد موقفهنّ النهائي تجاه حربٍ نوويّةٍ وشيكة.
لم أمنع نفسي من التجسّس البريء على فحوى النقاش الخطير الدائر بينهنّ، خاصّةً وقد تركن كل طاولات المقهى واخترنَ طاولةً بجانبي، فودّعتُ القدرةَ على الدراسة مؤقتًا.
استنتجتُ -وفق رئيسة الجلسة ذاتِ النظرات الحادّة واللهجة الصارمة- أنّ الهدف الأساسي لهذا الاجتماع الطارئ هو "تطيير المستر".
وبدا لي من سياق التصريح الذي صدرَ عن رئيسة الجلسة، ومن فهمي للهجتهنّ المصرية اللطيفة، أنّ المستر هو أستاذ الرياضيات الذي يتصرّف كما يحلو له، وينقصهنّ علاماتٍ بلا رقيب ولا حسيب.
"هو فاكر نفسه ايه بجد؟"
وبعد ساعتين من المداولات، غادرت الفتيات المكان.
وقد تركنَ خلفهنّ كؤوسًا لم يُشرب أكثر من ربعها.
وتركنَ حقيقةً أعرفُها الآن: لن يستطيعوا -ولو عقدوا ألفَي اجتماع- تطيير المستر. ولا تطييرَ طائرةٍ ورقيّة في الجو حتى.
وتركنَ وراءهنّ فرصةً -لم أكن لأفوّتها- للاستمتاع بزرقة البحر أمام المقهى، وبالشمس الناعمةِ التي تودّع مهدَها، وبدورانِ الطيور بخفّةٍ في الهواء الجميل، وبحقيقةِ أنهنّ ما يزلنَ معًا. في هذه الحقبةِ الخفيفةِ البريئة.
غبتُ مع كلمة "رياضيات" التي تكرّرت في نقاشهنّ. وتذكرت حين كنتُ في هذه الحقبة الزمنيّة من تاريخيَ البشريّ القديم.
قبل عشر سنوات.
كنت ما أزال ملزمةً بدراسةِ محتويات كتابٍ أزرق مُعنوَن ب"الرّياضــيّــات".
هل مرّت عشر سنوات حقًا منذ كنت في الصف التاسع، أجلس مثل هذه الجلسة مع صديقاتي، ونتظاهر بأنّ مشاكلنا الصغيرة وعراكاتنا التافهة مع بعضنا ومع المعلّمات هي نهايةُ الحياة على وجه الكوكب؟
ذكّرتُ نفسي بألا أبالغَ في تقديرِ عمري وتجاوُزي لهذه المراحل. خاصّةً وقد ذكرت نفسي بشيءٍ أهمّ:
ما زلنا جميعًا نتصرّفُ بالطريقة نفسها.
بعقليّة فتيات الصف التاسع -أو الرابع عادي-، اللواتي لا يعرفنَ أكثر من حدود الغرفة الصفيّة الضيّقة التي يعشنَ فيها معظمَ أيّام السنة، ولذلك نتصرّف كأن مشاكلنا الشخصيّة ومواقفنا العابرة هي انهياراتٌ متكررة للدنيا، وتمثّلاتٌ لعلامات قيام الساعة.
أنظر إلى كثير من المواقف حولي وأراقب ردة فعلي، وأقول في نفسي إنّني لم أعد في الصف الرابع لأحمّلَ الأمور أكثرَ مما تحتمل، وأعيش معارك ليست لي، بل صرتُ على وعيٍ تامّ بأن كل شيءٍ وكل شخصٍ سيمرّ بسرعةٍ تُنسيني أنه حدثَ أو مرّ أصلًا، ولذلك أحاول ألا أكترث.
وألا أشغل خلايا مخي بتحليل كثيرٍ من الهراء أو الوقوف عنده.
لكنّ المشكلةَ الكبيرة هي أن نزعتنا الإنسانيّة الدائمة لتهويل الأمور، وتضخيمِ التوافه، والانشغال بها عن المهمّ حقًا، لنثبتَ وجودَنا اللحظيّ والآنيّ، ونُثبتَ مظلوميّتَنا وحاجتَنا الملحّة إلى الدفاع أو الهجوم، ستسيطر علينا على الدوام.
وسنلوكُ مواقفَ بعينِها بألسنتنا وحيواتِنا شهورًا طويلةً، غيرَ قادرين على تجاوزها، بينما العالم يجري، ويجري، ويجري.
ربما ما زالت صدمات الصف التاسع النفسيّةُ عالقةً مع الكثيرين منا بحيث تستمرّ أنماط السلوك نفسها مدّةَ عشر سنوات، وعشرين سنة، وعمرًا كاملًا أحيانًا.
لكنّه شيء مؤسف وباعثٌ على الأسى لمن يحاول أن تنسجمَ تصرفاته مع الإيقاع الذي تجري وفقه الحياة.
وعدتُ نفسي -وأنصحكم- بالتوبة، بأن نكبّر عقولنا.
دعونا نفضّ طقسَ الاجتماعاتِ المسمومة المغلقة، وإذا وجدتم أنفسكم عالقين فيه يومًا، مع أشخاصٍ يريدون أن يبتلعوا الجميع بأناهم المتضخّمةِ التي تملؤها رغبةٌ طفوليةٌ بالتخاصم، وتتعارك مع الذبابِ الذي يقترب من وجهها، فكونوا أول من يربأُ بنفسه عن اللؤم، وعن المراهقة.
كونوا أوّل من يشيرُ بإصبعه إلى الشمس إذ توشكُ على الغروب، وإلى اتّساع البحر الكبير.
***
Comments