عُـــزلـــة
- مريم الصّفدي
- Jan 24, 2024
- 2 min read
Updated: Feb 16, 2024
إليكَ هذا الشعور: أنت تجد نفسكَ -فجأةً- في حاجةٍ ماسة إلى إنهاء علاقاتك الحالية كلها، دقّها وجلّها.
علاقاتك جميعها، مهما كان طولها وعمقُها وعمرها.
كتلك الرّغبة الجميلة الملحة على رأسك في إيجادِ شخص آخر يشبهك، يرغب قلبك فجأةً في أن تبتعد عن كل أولئك الذين تعرفهم.
رغبةٌ في الابتعاد التامّ عن كل الأمكنة والذكريات، وكل الأحاديث الممتلئة والمهترئة. عن أضخم المواضيع وأهمّها وأكثرها إثارةً وتشويقًا وحساسية، وعن ذاك الهراء السّخيف الذي تثرثره مع العابرين عن الطقس والمواد الجامعية والبشريّين الآخرين وما إلى ذلك.
عن الإنسانِ الذي يجعلك تقوم من مكانك احترامًا أو لهفة، وعن ذاك الذي يجعلك تتثاءب في سرّك وتبتسم ببلاهة وتشرد في اللاشيء.
أن تذهب إلى مكانٍ تقودك إليه حاجتك إلى التخلّي.
مكانٍ لا تاريخ لكَ فيه ولا يعرفك فيه أحد فتستطيع تكوين نفسك من جديد. من الصّفر. من نقطة انعدام التّصورات. من انطلاقةٍ مريحةٍ لا يجرؤ أحدٌ فيها على أن يقول لك بصفاقة: افعل كذا ولا تفعل كذا.
أن تنصّب نفسك ملكًا على أشيائك دون أن يثور أو ينقلبَ عليك تافهٌ لا تحبّه. أو تافهٌ آخرُ تحبّه، يُعيدك إلى نقطة الصّفر ويبقيك فيها.
أنتَ تسألني عن مدى حقيقيّةِ هذه الرّغبة وجديّتها حين تجد نفسك غيرَ قادرٍ على الابتعاد عن ما تحبّه خلال عملية الهجرة هذه.
سأقول لك: رغبتك كاذبةٌ إذًا. أنت تريد أن تبتعد عن فلانٍ وعلّان، ولست تريد العزلة لذاتها.
اسمع، قد ترفض هذه الفكرة: الابتعاد عن الذين لا تحبّهم، عادي وبدَهي وطبيعي، ولا يُنبي عن أية بطولة، لكنّ الابتعاد عن من تحبّ، هو المتعة الحقيقيّة.
هو اللذة النّهائية الكبرى التي تمنحك شعورًا بالاستقلالية المطلقة وتملؤك بالقدرة.
القدرة على أن تُسقط نفسك بكامل إرادتك عن قمّة جبلٍ بعد أن أُنهكت بالصعود.
أن تُبعد نفسكَ بنفسك عن شخصٍ وأنت على قمة الحب والتعلّق.
في ذروته ومنتهى اشتعاله.
لا أستطيع أن أشرح لك حجم القوّة في هذا التّرك.
الأمر يشبه الانتحار الذي يقوم به بعضهم حين يشعرون بالاكتفاء الشديد من الحياة.
تنسحبُ قبل أن تفسد الأمور، ترضى بما انتهيتَ إليه وتخاف عليه من الانحدار نحو النهايات القاتمة، فتدفنه بيديك في مكانه ولا تبكي عليه. وليس ضروريًا أن تكون راضيًا عن النهاية، اللذة هي في ذاك القطع المفاجئ الذي لا تمنح لنفسك معه مجالًا لأن تشكّك في قدرتها على التخلّي والابتعاد.
النهاية في هذا تكون لك قبل أن يختارها لكَ أحد. خاتمة القصص تكون خاتمًا في إصبعك.
تمضي وحدَك مجددًا، دون أن تتشبث بشيء سوى نفسك، ولا ترغب بأيّ رفقةٍ أخرى مهما كانت جاذبةً ومثيرةً للاهتمام.
هل تدرك كم أنّ الأمر مدهشٌ و...
- لا.
-لا بأس.
***
Comments